في حيّ تجاري قديم.. كان يعتبر في يوم من الأيام مركز المدينة.. وكان التجار يتهافتون عليه لتأجير محلاتهم.. وهو الآن مليء بها.. حتى لا تكاد تجد مكان لتوقف فيه سيارتك.
أما سكان هذا الحيّ.. فغالبا ما يكونون من عمّال هذه المحلات.. الباعة أو عمّال النظافة.. حيث أن السكان الأصليين خرجوا من المنقطة لشدة ازدحامها.. ولم يبقى إلا هؤلاء الأجانب الذين جاءوا إلى هنا طلبا للقمة العيش.. مخلفين ورائهم أفواها جائعة وأجسادا عارية.
ذهبت لهذه المنطقة ذات يوم لأشتري لي غرضا.. فسمعت الآذان.. فتوجهت للمسجد.. وعندما تدخل أي مسجد في حي تجده مكتظا بالمصلين، والحمد لله.. وربما لا تجد مكانا لتصلي فيه إن قدمت متأخرا..
انتهت الصلاة.. فخرجت من المسجد وإذ بامرأة تجلس على عتبته تمد يديها للخارجين منه.. فقفزت في مخيلتي هذه الجملة "مسكينة هذه المرأة.. ألم تجد غير هذا المسجد في هذا الحي لتطلب المال منه.. إن معظم المصلين هنا ممن جاءوا طلبا للقمة العيش".. وبدأت أفواج المصلين تخرج من المسجد.. يا له من مشهد.. ما أن يخرج أحد حتى يمد يديه لجيبيه ويخرج منه ما تجود به نفسه ((وما تسمح به حالته)) ويضعه في يد هذه المرأة الضعيفة..
سبحان الله.. إن الناظر لهؤلاء ((المتصدقين)) يظن أنهم بحاجة إلى الصدقات ((وهم غالبا كذلك)) ومع هذا فهم من يتصدقون على غيرهم..
وخرج من المسجد رجالا من أبناء البلد ((تظهر عليهم آثار النعمة)) قد حضروا لهذه المنطقة غالبا لشراء بعض الحاجيات.. تراهم يخرجون غير عابئين بهذه الجالسة على العتبات ((إلا من رحم ربي))..
فسبحان الله.. يتصدق هذا الفقير ويعرض هذا الغني!!
فتفكرت بعدها.. ألم يأت هذا العامل لبلدنا طلبا للرزق!؟ ألم يغترب عن بلده ليكفل لأطفاله حياة كريمة!؟ وكم هو راتبه هنا!؟ هل يكفيه للإطعام أطفاله وإلباسهم و((تعليمهم)) ليكونوا أحسن حالا منه!؟ هل يكفي لاستئجار بيت يضمهم ويضم زوجته!؟ هل يكفي لعون أخواته ممن لم يضمهن بيت رجل يتزوجهن!؟ هل يكفي لعلاج أبويه الكبيرين!؟ هل وهل وهل!؟
نعم.. إنه يكفي.. ولكن السبب ليس في حجم هذا الراتب.. فقد لا يتجاوز العدة مئات.. ولكن.. في بركة الصدقة..
وصدق رسولنا الكريم حين قال: ((ما نقص مال عبد من صدقة))..
نعم.. إنها البركة تحل في هذا المال.. فتغني نفس صاحبه حتى وكأنه ملك الدنيا بما فيها..
إن في تصرفاتهم هذه معانٍ كبيرةٍ تستحق الوقوف عندها..
إن فيها التوكل على الله..
إن فيها الإحساس بالفقراء والعطف عليهم..
إن فيها عزة النفس..
إنهم بتصرفهم هذا يحيون المشاعر المتبلدة.. إن الناظر لهم وهم يخرجون هذه القطعة من القماش التي يلفّونها حول نقودهم لفّاً محكما ويخرجون بعضا من هذه النقود التي عملوا من أجلها في حر الصيف، وبرد الشتاء، في لهب الشمس، وماء المطر.. يتأثر بهم.. ويخرج محفظته الفاخرة ليخرج منها ما تجود به نفسه في هذا الموقف..]اللهم نقّ قلوبنا من الشح والبخل واجعلنا من المنفقين في سبيلك
سبحانك اللهم وبحمدك.. أشهد ألا إله إلا أنت.. أستغفرك وأتوب إليك
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله فى كل لمحة ونفس عدد كل معلوم لله