المرأة نصف الرّجل !
يدّعي بعض النّاس أنّ الإسلام يعامل المرأة على أنّها نصف الرّجل !
وحُجَّتُهم في ذلك أنَّ اللهَ تعالى قسَّم المواريثَ في القرآن ، فأعطى
لِلرَّجل ضعف ما أعطى للمرأة ، وأنَّه أعلنَ في القرآن أيضًا أنَّ شهادة
رجُل واحد في المحكمة تُعادِل شهادةَ امرأتين .
لِنَعُدْ إذًا إلى القرآن الكريم ، لِنفهم منه كلّ شيء :
أمَّا عن الميراث ، فيقول
الله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ
ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ
كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ
فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ
وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً
مِنَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا 11 } (4- النّساء 11) .
بدأ
الله تعالى هذه الآية إذًا بقوله : { يُوصيكُم الله في أولادكُم لِلذَّكَر
مثلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن } ، وهو ما استنتجَ منه بعضُ النَّاس أنَّ
الأنثَى ترثُ دائمًا نصفَ الذَّكَر . وهذا غير صحيح ، لأنَّه لو كان الأمرُ
كذلك لقال تعالى : يُوصيكُم اللهُ في الميراث لِلذَّكَر مثلُ حَظّ
الأُنْثَيَيْن .
ولكنَّه قال : { يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ }. فهذا التَّقسيم يَسْري إذًا في هذه الحالة فقط من الميراث ، وليس في كلّ الحالات .
أي أنَّه عندما يَموتُ الأب ويتركُ بَنينَ وبنات ، فإنَّ كلَّ ذَكَرٍ يكُون نصيبُه من إرث أبيه : ضعْف نصيب كُلّ واحدة من أخواته .
وليس في هذا هضمٌ لِحُقوق البنت ، وإنَّما بالعكس فيه ميزاتٌ لها !
نعم
، فالرَّجل هو المطالَبُ في الإسلام بتقديم المهْر عند الزَّواج ،
وبالإنفاق على زوجته وأبنائه بعد ذلك . لذلك ، فهو ، حتَّى وإن أخذَ ضعْفَ
نَصيب أخته في الميراث ، إلاَّ أنَّ ما يأخُذه سيصرفُه في مَلازم البيت
والأسرة . بينما عندما تأخذُ أختُه نصيبَها في الميراث ، حتَّى وإن كان نصف
نَصيب أخيها ، إلاَّ أنَّ ما تأخذُه تَحتفظُ به لنَفسِها ،
وليستْ مُلْزَمة بأن تُنفق منه على أحد غيرها ! بل حتَّى زوجها لا يستطيع
أن يأخذ منه درهمًا واحدًا إلاَّ بإذنها . أليست الأنثَى إذًا هي
الرَّابِحَة في هذه القسمة؟!
أمَّا
في الحالات الأخرى من الميراث ، وهي عديدة ، فإنَّ نصيبَ الأنثَى يُمكنُ
أن يكون أكثر أو أقلّ من الذَّكَر ، بِحَسَب صِلَة كُلّ منهما بالمتوَفَّى ،
وبِحَسَب عدد الورثَة وجِنْسهم .
ليس
صحيحًا إذًا أنَّ اللهَ قسَّم المواريثَ ففضَّلَ الرَّجلَ على المرأة،
وإنَّما قسَّمها بِحَسب مَقاصد حكيمة، يعجزُ أن يتفطَّن إليها خُبراء
العالَم في هذا الميدان ، ولو اجتمعُوا على ذلك .
ننتقل الآن إلى دعْوَى أنَّ شهادة المرأة بنصْف شهادة الرَّجل . يقول
الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ
بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ
كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ
الله فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ
الله رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ
فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ
مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا
فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا
دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى
أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ الله وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ
وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً
تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا
وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ
وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا الله
وَيُعَلِّمُكُمُ الله وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 282 } (2- البقرة 282)
.
فالخلْطُ
الذي وقعَ فيه بعضُ النَّاس هو عند قوله تعالى : { فإنْ لَمْ يكُونَا
رجُلَيْن فرَجُلٌ وامْرَأتان } ، استنتجَ منه هؤلاء أنَّ شهادة المرأة في
المحكمة تُساوي نِصفَ شهادة الرَّجُل ، وبالتَّالي لا بُدَّ من امرأة ثانية
تشهدُ معها !
لكنَّ استنتاجَهُم هذا خاطئ تمامًا ! فالآية هنا لا تتحدَّثُ عن الشَّهادة في قضيَّةٍ مَا أمام القاضي ، وإنَّما تتحدَّثُ عن الإشْهاد عند الاستدانة ،
أي عندما يُريدُ شخصٌ مَا أن يُقرِضَ شخصًا آخر مبلغًا من المال مثلاً ،
فإنَّ الله يُوصيه (أي يُوصِي الدَّائن) ، لكي يَحفظَ حقَّه ويَستوثق من
عودة مالِه إليه ، أن يجعلَ وثيقةً بينه وبين الذي سيَقْترضُ المال ،
يكتُبها كاتبٌ عادل ، وبحضُور شُهود مِمَّنْ يَرضَى بهم الدَّائنُ ويثقُ
بهم : إمَّا رجُلان أو رجلٌ وامرأتان .
فالمرأتان إذًا تُعوّضان الرَّجُلَ الواحدَ كَشاهدتَيْن ، فقط في هذه الحالة الخاصَّة ،
وهي كتابة الدَّيْن . وعلَّلَ اللهُ تعالى حضُور امرأتين بَدلَ الرَّجُل
الثَّاني ، بقوله : { أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا
الْأُخْرَى } ، أي ربَّما تَنسَى الأولى بعض التَّفاصيل ، فتُذكّرها الأخرى
بها عند الحاجة لذلك .
قال
بعضُ العلماء : لِأنَّ المرأة عادةً ليس لها خبرة مثل الرَّجل في مثل هذا
النَّوع من المعاملات الماليَّة (الدَّيْن ، والبيع والشّراء) ، بِحُكم
أنَّ الرَّجلَ هو الأكثر مُمَارسة لها .
لهذا
، أوصَى اللهُ تعالى صاحبَ المال أن يختار رجُلَيْن مِمَّن يرضَى
شهادتَهُما ، لِيَحْضُرا كتابة الدَّيْن . فإن لَمْ يَجِدْ ، فعند ذلكَ
يلتجئُ إلى رجُل وامرأتين . هذه هي كلُّ القضيَّة .
أمَّا
الشَّهادة في المحكمة ، فلا عِبْرة فيها بِجنْس الشُّهود أو عددهم ،
وإنَّما العبرة بِمَن يُقدّم البيّنة والدَّليل لِلوصول إلى الحقيقة .
ولذلك يقبلُ القاضي بشهادة المرأة الواحدة ، والرَّجل الواحد ، والمرأة
والرَّجل معًا ، بدون تمييز بينهما .
ويكفي أن نستدلَّ على ذلك بالآيات الخاصَّة باللّعان ، عندما يَتَّهِمُ رجلٌ زوجتَه بالزّنا وليس له شهودٌ إلاَّ نفسه . يقول
الله تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ
شَهَادَاتٍ بِالله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ 6 وَالْخَامِسَةُ أَنَّ
لَعْنَتَ الله عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ 7 وَيَدْرَأُ
عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِالله إِنَّهُ
لَمِنَ الْكَاذِبِينَ 8 وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا إِنْ
كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ 9 } (24- النّور 6-9) .
ففي
هذه الحالة ، يشهدُ الزَّوجُ إذًا أربعَ شهادات بالله إنَّه لَمِنَ
الصَّادقين ، والخامسة أنَّ عليه لعنة الله وسخطه إن كان مِن الكاذبين .
ثمَّ يأتي دورُ الزَّوجة ، فإذا أصرَّت أنَّ زوجَها كاذب ، يُطلَبُ منها أن
تشهَد أيضًا أربع شهادات بالله إنَّه لَمِنَ الكاذبين ، والخامسة أنَّ
عليها لعنة الله وسخطه إن كان زوجها من الصَّادقين ، ثمَّ يُخلَى سبيلُها .
فالزَّوجة تشهد إذًا أمام القاضي نفس عدد شهادات زوجها ، لكي تُبطِلَ دعواهُ ضدَّها . وفي هذا دليلٌ واضحٌ على أنَّ شهادة المرأة أمام القضاء
مساوية تمامًا لِشهادة الرَّجل .
بل
إنَّ فيه أيضًا ردّا قويّا على كلّ مَن يدَّعي أنَّ الإسلام يضطهدُ المرأة
، لأنَّه لو كان كذلك لاكتفى بشهادة الزَّوج ضدَّ زوجته وأقام عليها الحدّ
. ولكنَّها عدالةُ الإسلام التي تُساوي أمام القاضي بين الرَّجل والمرأة ، بين الرَّئيس والمرؤوس ، وبين المسلم وغيره .
أخيرًا ، لو كان الإسلام يعتبرُ المرأة نصف الرَّجل ، لأعطاها فقط نصف جزاء الرَّجل يوم القيامة ! ولكنَّ الله تعالى يقول
: { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا
124 } (4- النّساء 124) .